عادة يدخل المعلم الجديد الغرفة الصفية متوقعا أنه سيقدم درسا يتفاعل معه الطلاب بأدب واحترام وانتظام. وغالبا يتحقق هذا التوقع في الأسبوع الأول من بداية الدارسة. بعد ذلك تزول ”الهيبة“ التابعة للفصل الجديد، وتظهر تصرفات الطلاب الفوضوية ومن ثم تتراكم لتنزع السيطرة من قبضة المعلم.
لقد كنت ذلك المعلم يوما ما، أصارع التحدي ولا أعرف التصدي لتلك الفوضى، بل لم أكن أعرف سبب حدوثها حتى.
في نشرة هذا الأسبوع سآخذك في رحلة لتتعرف على النموذج الذي ساعدني في التغلب على فوضى الصف.
متى تبدأ الفوضى؟
بهذا السؤال أنا لا أبحث عن الأسباب الجذرية للفوضى لأنها كثيرة ومتنوعة وبالتالي التعامل معها صعب وبطيء. أنا أتساءل فقط عن شكل اللحظة التي تبدأ عندها الفوضى.
الإجابة على هذا السؤال سهلة.
تبدأ الفوضى عندما يتصرف أحد الطلاب بطريقة تخالف توقع المعلم وتعيق عمله. وقد تكون هذه المخالفة متعمدة بمعنى أن الطالب يعرف أن تصرفه مخالف ومع ذلك يفعله. مثلا كرمي ورقة على أحد الزملاء أثناء الشرح. لنطلق على هذا التصرف اسم المشاكسة. في المقابل، قد تكون المخالفة غير متعمدة بل وربما تكون حسنة النية مثل إجابة الطالب على سؤال المعلم مباشرة دون إعطاء فرصة لزملائه. لنسمي هذا التصرف المخالفة.
كيف نضبط الصف سواء في حالة المشاكسة أو المخالفة؟
ضبط استباقي أم ضبط تفاعلي؟
خلال عملي في شركة أرامكو السعودية كنت ملزما بارتداء زي مخصص للعمل في مصنع تكرير الغاز. الزي مصنوع من مادة مقاومة للاشتعال مما يجعله مزعجا في اللبس. وبما أنني كنت أعمل في مبنى يقع خارج سور المصنع، كنت أتساءل لماذا أنا ملزم بهذا اللبس المزعج.
وصلت لإجابة هذا السؤال بعد العمل في شركات مختلفة.
تتميز شركة أرامكو السعودية بقدرتها على ضبط موظفيها عن طريق زرع ثقافة الأمان الاستباقي، فأرامكو لا تنتظر حدوث الحريق داخل المصنع لتوزع الزي المقاوم، بل تستبق حدوث هذه الكارثة بتدريب موظفيها على مداومة لبس الزي.
لنكن مثل شركة أرامكو في ضبط الصف — ضبط استباقي وليس تفاعلي.
ما هو الضبط الاستباقي في البيئة الصفية؟
لنتصور أولا شكل الضبط التفاعلي. الضبط التفاعلي هو ما كنت أفعله في بدايتي كمدرس. كان همي الأول (والأخير) شرح الدرس. لم أتوقع حدوث فوضى. وبالتالي لم ألاحظ المخالفات البسيطة إلا بعد تضخم أثرها مما أرغمني على إيقاف الدرس والالتفات للمشكلة.
في المقابل، الضبط الاستباقي هو أن تخمد الشرارة قبل تحولها لنار ضارمة، هو أن ترتدي الزي المقاوم لكي تموت الشرارة دون اشعال فوضى في الصف.
سأخبرك بعد قليل بالخطوات التي ساعدتني في تحقيق الضبط الاستباقي. لكن اسمح لي ببضع ثواني أبين فيها فكرة جوهرية في إدارة الصف قد يغفل عنها المعلم المبتدئ. (أقول ذلك لأنني كنت فعلا غافل عن هذه الفكرة).
قلنا أن الفوضى تحدث عند مخالفة توقع المعلم، وقد تحدث بنية حسنة. سبب ذلك هو أن الطلاب لهم قيم مختلفة، تربية مختلفة، عادات مختلفة.
أساليبهم في التعاون، في المخاطبة، في الاحترام تتغاير.
ما سأقوله الآن قد يبدو قاسيا لكنه يصب في مصلحة الطالب.
يجب أن تتوحد قيم الطلاب وعاداتهم وأساليبهم تحت إطار واحد نسميه قواعد الصف. بدون تجاوزات، لا نسمح لعبدالله أن يرفع صوته لأنه معتاد على ذلك في المنزل ولا نقبل أنانية محمد لأنه الابن المدلل. أنت تحدد المقبول وغير المقبول. أنت القائد. والجميع يتبع قيمك.
إذا تقبلت هذه الفكرة، إذن أنت مستعد للضبط الاستباقي
٣ خطوات لتصميم الضبط الاستباقي
مثلما لأرامكو زي محدد تلزم فيه موظف المصنع، سيكون لنا قواعد صفية نلزم فيها الطلاب.
١) حدد قواعدك
القاعدة الصفية هي توجيه ينظم سلوك الطالب: لا تتكلم بصوت عالي، لا تتكلم بدون إذن، ارفع يدك إذا كان لديك سؤال… وغيرها. عليك معرفة قواعدك الصفية بوضوح لكي تلزم طلابك بها.
لكن كيف أكتب قواعدي؟
الغاية من كتابة القواعد ليس حصر كل التفاصيل والاحتمالات، الغاية تنظيم نشاط الصف. لذلك فكر في أجزاء الحصة، وحدد قوانين أساسية تضمن تحقق توقعاتك.
ماذا يفعل الطالب عند دخول المعلم للصف؟ ماذا يفعل الطالب أثناء الشرح؟ ماذا يفعل الطالب بعد أن يطرح المعلم سؤال؟ كيف يطرح الطالب سؤال؟ ماذا يفعل الطالب عند انتهاء الحصة؟
ولا تقلق، غالبا ما تكتبه سيكون مشابه لما أكتبه أنا أو ما يكتبه زملاؤنا. الغرض من الكتابة (بدلا من النسخ) هو وضوح القوانين في ذهنك لتنفذ الخطوة القادمة، وإليك مثال على قوانين الصف للمساعدة.
ادخل الصف قبل بدء الحصة
استمع للمعلم أثناء الشرح
ارفع يدك إذا أردت السؤال
لا تأكل ولا تشرب داخل الصف
لا تتكلم بصوت عالي
لا تتكلم بدون اذن
٢) درس قواعدك
بعد تحديد قواعدنا، من البدهي أننا سنعرضها على الطلاب — عادة في بداية الدراسة. لكن مجرد العرض غير كافي. لابد من توضيح القواعد. لابد من شرح كيفية الالتزام ولماذا نلتزم.
تذكر، كل طالب له عاداته وأساليبه ولكي نلزمه بعادات وأساليب الصف لابد أن يتعلمها. لهذا السبب نبين الكيفية. مثلا عند عرض القاعدة ”لا تتكلم بصوت عالي“ لابد أن نبين لهم ما هو الصوت المقبول. وفي الواقع، عمل هذا النشاط يحول عرض القواعد لفعالية ممتعة يتذكرها الطلاب.
بالإضافة، عندما نبين للطلاب لماذا نلتزم بالقوانين نحن نقنعهم بأن القوانين مصممة لأجلهم. مثلا رفع اليد يضمن لهم حقهم في الاستماع والتفكير وفرصة الإجابة على السؤال.
تذكر، أنت قائد الصف ولكي يتبعوك يجب أن يؤمنوا بك.
٣) حافظ على قواعدك
القواعد تقيد حرية الطالب، وبطبيعته كإنسان سيحاول التحرر من هذا القيد. سيختبر إذا ما كانت القاعدة تطبق دائما أم تطبق أحيانا. فإذا كانت من النوع الثاني سيتحول الوضع إلى اسرح وامرح.
لابد من السيطرة على محاولات الاختراق ولابد من اقتناص فرص تعزيز القواعد.
السيطرة بالعقوبات
ربما يتصور المتبدئ (كما كان حالي) أن العقوبة جريمة، أو إذا خففناها قلنا أسلوب قاسي. لكن العقوبة لا تعني لكمات على الوجه وركلات في البطن. الغاية من العقوبة هي الحد من تكرار الفعل.
العقوبة درجات، كل درجة تتناسب مع سوء الفعل (وعدد تكرارات الفعل). الغاية ليست الشدة وإنما حتمية الوقوع. مثل كاميرات السير (ساهر)، إذا قطعت الإشارة … فلاش.
وتذكر، نحن نعاقب لأجل الطالب. لأجل أن يلتزم، هو والجميع، وبالالتزام نحقق التعليم الفعال.
التعزيزات بالثناء
ومن المحمود الموازنة بين العقوبة والتعزيز، بين اللغة السلبية واللغة الايجابية.
غالبا تشغلنا ظروف التدريس عن الانتباه لالتزام الطلاب الذي يحدث بشكل يومي. وبالتالي نخسر فرصة كثيرة لتعزيز قواعدنا. لتستغل هذه الفرص خطط قبل دخول الصف لملاحظة سلوك معين مثل هدوء الطلاب أو اهتمامهم بالنظافة، واشكرهم على هذا السلوك. بهذا الشكر البسيط أن تعزز قوانينك الصفية (وتزرع ثقافة شكرا).
آمل أن تساعدك كلماتي على إدارة صفك.
ألقاك الأسبوع القادم